الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (22- 24): {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}ولما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال: {ولما بلغ أشده} أي مجتمع قواه {آتيناه} أي بعظمتنا {حكماً} أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها، من حكمة الفرس، فلا يقول ولا يفعل إلا أمراً فصلاً تدعو إليه الحكمة؛ قال الرماني: والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة {وعلماً} أي تبييناً للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن {وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به {نجزي المحسنين} أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره؛ وعن الحسن: من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله، والأشد: كمال القوة، وهو جمع شدة عند سيبوبه مثل نعمة وأنعم، وقال غيره: جمع شد؛ قال ابن فارس في المجمل: وبعضهم يقول: لا واحد لها، ويقال: واحدها شد- انتهى. قيل: وهذا هو القياس نحو ضب وأضب، وصك وأصك، وحظ وأحظ، وضر وأضر، وشر وأشر قال الرماني: قال الشاعر:انتهى.واختلفوا في حد الأشد فقيل: هو من الحلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من عشرين سنة، وروى غير ذلك، والمادة تدور على الصعوبة، وهي ضد الرخاوة، ويلزمها القوة، فالشد على العدو منها، وشد الحبل وغيره: أحكم فتله، والشديد والمتشدد: البخيل- لصعوبة البذل عليه، والشدة: صعوبة الزمان، وشد النهار: ارتفاعه، وهو قوته، وشددت فلاناً: قويت يده ودبرت أمره، وأشد القوم- إذا كانت دوابهم شداداً فهم مشدون ضد مضعفين.ولما أخبر تعالى أن سبب النعمة عليه إحسانه، أتبعه دليله فقال: {وراودته} أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود- إذا جاء وذهب {التي} هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه {هو في بيتها} وهو في عنفوان الشباب {عن نفسه} أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاورز نفسه إلاّ بعد مخالطتها- كما تقول: كان هذا عن أمره، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حيناً تفتل له في الذروة والغارب، وذلك لأن مادة راد واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة: رود، ودور، وورد، ودير وردي، وريد، ودري- تدور على الدوران، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك، يقال: دار فلان يدور- إذا مشى على هيئة الخلقة، والدهر دواري- لدورانه باهله بالرفع والحط، والدوار: شبه دوران في الرأس، ودارة القمر معروفة، والدائرة: الحلقة والدار تجمع العرصة والبناء- لدوران بنائها وللدوران فيها وللذهاب منها والرجوع إليها، والداري: الملاح الذي يلي الشراع، وهو القلع- لأنه يديره على عمود المركب، أو لأنه يلزم دار السفينة؛ والرائد: الذي يرتاد الكلأ، أي يذهب ويجيء في طلبه- لمّا لم يكن له مقصد من الأرض معين كأنه يدور فيها، والذي لا يكذب أهله، وكل طالب حاجة- قاله ابن دريد.وراودت الرجل: أردته على فعل؛ ورائد الرحى: يدها، أي العود الذي تدار به ويقبض عليه الطاحن، والرياد: اختلاف الإبل في المرعى مقبلة ومدبرة، ورادت المرأة- إذا اختلفت إلى بيوت جاراتها، وراد وساده- إذا لم يستقر، والرود: الطلب والذهاب والمجيء، وامش على رود- بالضم، أي مهل، وتصغيره رويد، والمرود: الذي يكتحل به، لأنه يدار في العين، وحديدة تدور في اللجام، ومحور البكرة من حديد، والدير: معروف، ويقال لرجل إذا كان رأس أصحابه: هو رأس الدير- كأنه من إرادة أصحابه به، وترديت الرداء وارتديت- كأنه من الإدارة، والرداء: السيف- لأنه يتقلد به في موضع الردى، والرديان- محركاً: مشى الحمار بين آريه ومتمعكه، وراديت فلاناً، مثل: راودته، وردت الجارية- إذا رفعت إحدى رجليها وقفزت بواحدة، لأت مشيها حينئذٍ يشبه الدوران، والريد- بالكسر: الترب، لأنه يراودك، أي يمشي معك من أول زمانك؛ ومن الإتيان: الورود، وهو إتيان المورد من ماء وطريق، والوارد: الصائر إلى الماء للاستقاء منه، وهو الذي ينزل إلى الماء ليتناول منه، والورد معروف، ونور كل شجرة ورد، لأنه يقصد للشم وغيره، ويخرج هو منها فهو وارد أي آتٍ، وهو أيضاً مع ذلك مستدير، والورد- بالكسر: يوم الحمى إذا أخذت صاحبَها لوقت لأنها تأتيه، وهو من الدوران أيضاً لأنها تدور في ذلك الوقت بعينه، وهذا كله يصلح للإقبال، ومنه: أرنبة واردة، أي مقبلة على السبلة، والريد: أنف الجبل- قاله ابن فارس، وقال ابن دريد: والريد: الحيد الناتئ من الجبل، والجمع ريود؛ وفي القاموس: الحيد من الجبل شاخص كأنه جناح، ويسمى الشجاع الوارد، لإقباله على كل ما يريده واستعلائه عليه، والوريدان: عرقان مكتنفا صفحتي العنق مما يلي مقدمة غليظان، والورد: النصيب من القرآن، لأنه يقصد بالقراءة ويقبل عليه ويدار عليه، ودريت الشيء: علمته، فأنت مقبل عليه وارد إليه، والدرئة- مهموزة: حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي، والدرية- مهموزة وغير مهموزة: دابة يستتر بها رامي الصيد فيختله، فهي من الإقبال والخداع، وإن بنى فلان أدورا مكاناً، أي اعتمدوا بالغزو والغارة، والدريّ: شبيه بمدرى الثور وهو قرنه، لأنه يقصد به الشيء ويقبل به على مراده فيصلحه به، وما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب؟ والإرواد: المهلة في الشيء؛ وامش رويداً: على مهل، والرادة والريدة: السهلة من الرياح، فكأنها تأتي على مهل؛ ومن الحيرة والفساد والهلاك: ردي الرجل- إذا هللك، وأرداه الله، وتردى في هوة: تهور فيها، ورديته بالحجارة: رميته، والرداة: الصخرة، يكسر بها الشيء، والمرادي: المرامي؛ ومن حسن النظر: أرديت على الخمسين: زدت، لأنه يلزم حسن النظر الزيادة، وأراد الشيء على غيره، أي ربا عليه، وسيأتي بيان المهموز من هذه المادة في {سنراود} [يوسف: 61] من هذه السورة إن شاء الله تعالى {وغلقت} أي تغليقاً كثيراً {الأبواب} زيادة في المكنة، قالوا: وكانت سبعة؛ والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه {وقالت هيت} أي تهيأت وتصنعت {لك} خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري؛ والمادة- على تقدير إصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها: يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة- تدور على إرادة امتثال الأمر: هيت لك- مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، أي هلم، وهيت تهييتاً: صاح ودعاه، وهات- بكسر التاء أعطني- قال في القاموس، والمهاياة مفاعلة منه، والهيت: الغامض من الأرض، كأنه يدعو ذا الهمة إلى الوقوف على حقيقته، والتيه- بالكسر: الكبرياء والصلف، فالتائه داع بالقوة إلى امتثال أمره، والمفازة، فإنها تقهر سالكها، والضلال من المفازة- تسمية للشي باسم موضعه، ومنه: تها- بمعنى غفل، ومنه: مضى تهواء من الليل- بالكسر، أي طائفة، لأنها محل الغفلة، أو لأنها تدعو ساهرها إلى النوم ونائمها إلى الانتباه، هذا على تقدير إصالة التاء، وأما على تقدير أنها زائدة فهاءَ بنفسه إلى المعالي: رفعها، فهو يراه أهلاً لأن يمتثل أمرها، والهوء: الهمة والأمر الماضي، والهوء أيضاً: الظن، ويضم، وهؤت به: فرحت، ولا يكون ذلك إلاّ لفعل ما يشتهي، فكأنه امتثل أمرك، وهوئ إليه- كفرح: همّ، وهاء كجاء: لبى، أي امتثل الأمر، وهاء- بالكسر: هات، وهاء- كجاء، أي هاك، بمعنى خذ، والهيئة: حال الشيء وكيفيته الداعية إلى تركه أو لزومه، وتهايؤوا: توافقوا، وهاء إليه: اشتاق، فكأنه دعاه إلى رؤيته، وتهيأ للشيء: أخذ له هيئته، فكأنه صار قابلاً للأمر، أو لأن يمتثل أمره، وهيأه: أصلحه، والهيء- بالفتح والكسر: الدعاء إلى الطعام والشراب ودعاء الإبل للشرب، وإيه- بكسر الهمزة: كلمة استزاده واستنطاق، وبإسكان الهاء: زجر بمعنى حسبك، وهأهأ: قهقه في ضحكه، ولا يكون ذلك إلا بمن امتثل مراده.ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت، مع ما هي عليه من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب، كان كأنه قيل: إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد، فماذا كان منه؟ فقيل: {قال} أي يوسف مستعملاً للحكم بالعلم {معاذ} أي أعوذ من هذا الأمر معاذ {الله} أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علماً وقدرة، وملجأة الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي الله {ربي} أي موجدي ومدبري والمحسن إليّ في كل أمر، فأنا أرجو إحسانه في هذا {أحسن مثواي} بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه، وهذا التقدير- مع كونه أليق بالصالحين المراقبين- أحسن، لأنه يستلزم نصح العزيز، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى.ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول: وإذا كان ظلماً كان ماذا؟ قال ما تقديره: إني إذن لا أفلح، وعلله بقوله: {أنه لا يفلح} أي لا يظفر بمراده أصلاً {الظالمون} أي العريقون في الظلم- وهو وضع الشيء في غير موضعه- الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح.ولما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك: {ولقد همت به} أي أوقعت الهم، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها {وهمَّ بها} كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب {لولا أن رءآ} أي بعين قلبه {برهان ربه} الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي لهمّ بها، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء، وأن السجن أحب إليه من ذلك، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} [يوسف: 25]- الآية، من مطلق الإرادة، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد {لولا} في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10] أي لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب {لولا} المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه- نبه على ذلك الإمام أبو حيان، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال: إن هذا قول المحققين من المفسرين، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله، فكأنه قيل: إن هذا التثبيت عظيم، فقيل إشارة إلى أنه لازم له كما هو شأن العصمة: {كذلك} أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} أي الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي الزنا وغيره، فكأنه قيل: لِمَ فعل به هذا؟ فقيل {إنه من عبادنا} أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة {المخلصين} أي هو في عداد الذين هم خير صرف، لا يخالطهم غش، ومن ذريتهم أيضاً، وهذا مع قول إبليس {لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين} [ص: 83] شهادة من إبليس أن يوسف عليه الصلاة والسلام بريء من الهمّ في هذه الواقعة؛ قال الإمام: فمن نسبه إلى الهمّ إن كان من أتباع دين الله فليقبل شهادة الله، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبل شهادة إبليس بطهارته، قال: ولعلهم يقولون: كنا تلامذة إبليس ثم زدنا عليه- كما قيل: .تفسير الآيات (25- 29): {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغته في الامتناع بالجد في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال: {واستبقا الباب} أي أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما، هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فأوصل الفعل إلى المفعول بدون إلى، دليلاً على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه كان قد سبقها بقوة الرجولية وقوة الداعية إلى الفرار إلى الله، ولكن عاقة إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة، فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه، وهو ما كان من ورائه خوف فواته، فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها، ففتحه وأراد الخروج فمنعته {و} لم تزل تنازعه حتى {قدت قميصه} وكان القد {من دبر} أي الناحية الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها {وألفيا} أي وجدا مع ما بهما من الغبار والهيئة التي لا تليق بهما {سيدها} أي زوجها، ولم يقل: سيدهما، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يدخل في رق- كما مضى- لأن المسلم لا يملك وهو السيد {لدا} أي عند ذلك {الباب} أي الخارج، على كيفية غريبة جداً، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام لأن السيد لا يقدر على فتحه فضلاً عن الوصول إلى غيره لتغليق الجميع.ولما علم السامع أنهما ألفياه وهما على هذه الحالة كان كأنه قيل: فما اتفق؟ فقيل: {قالت} مبادرة من غير حياء ولا تلعثم {ما} نافية، ويجوز أن تكون استفهامية {جزاء من أراد} أي منه ومن غيره كائناً من كان، لما لك من العظمة {بأهلك سوءاً} أي ولو أنه غير الزنا {إلا أن يسجن} أي يودع في السجن إلى وقت ما، ليحكم فيه بما يليق {أو عذاب أليم} أي دائم ثابت غير السجن؛ والجزاء: مقابلة العمل بما هو حقه، هذا كان حالها عند المفاجأة، وأما هو عليه الصلاة والسلام فجرى على سجايا الكرام بأن سكت ستراً عليها وتنزهاً عن ذكر الفحشاء، فكأنه قيل: فماذا قال حين قذفته بهذا؟ فقيل {قال} دافعاً عن نفسه لا هاتكاً لها {هي} بضمير الغيبة لاستيحائه عن مواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب {راودتني عن نفسي} وما قال ذلك إلا حين اضطرته إليه بنسبته إلى الخيانة، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كانا فيه، وهو أنهما عند الباب، ولو كان الطلب منه لما كانا إلا في محلها الذي تجلس فيه، وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه {وشهد} ولما كان كل صالح للشهادة كافياً، فلم تدع ضرورة إلى تعيينه، قال: {شاهد} أي عظيم {من أهلها} لأن الأهل أعظم في الشهادة، رضيع ببراءته- نقله الرماني عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وسعيد ابن جبير، كما شهد للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صبي من أهل اليمامة يوم ولد بأنه رسول الله، فكان يدعي: مبارك اليمامة.فقال ذلك الشاهد {إن كان} أي حال المراوغة {قميصه} أي فيما يتبين لكم {قدَّ} أي شق شقاً مستأصلاً {من قبل} أي من جهة ما أقبل من جسده {فصدقت} ولابد من تقدير فعل التبين، لأن الشروط لا تكون معانيها إلا مستقبلة ولو كانت ألفاظها ماضية.ولما كان صدقها ليس قاطعاً في منع صدقه، قال: {وهو من الكاذبين} لأنه لولا إقباله- وهي تدفعه عنها أو تهرب منه وهو يتبعها ويعثر في قميصه- ما كان القد من القبل {وإن كان} أي فيما يظهر لكم {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر} أي من جهة ما أدبر منه، وبنى {قُدَّ} للمجهول للنزاع في القادّ {فكذبت} ولما كان كذلك كذبُها في إرادته السوء لا يعين صدقه في إرادتها له، قال: {وهو من الصادقين} لأنه لولا إدباره عنها وإقبالها عليه لما وقع ذلك، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة، لأن معنى {إن} هنا الشرط في جهة التقرير للمعنى الذي يوجب غيره لا على الشك، وقدم أمارة صدقها لأنه مما يحبه سيدها، فهو في الظاهر اهتمام بها، وفي الحقيقة تقرير لكذبها مرتين: الأولى باللزوم، والثانية بالمطابقة.ولما كان المعنى: فنظر، بنى عليه قوله: {فلما رءا} أي سيدها {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر قال} لها وقد قطع بصدقه وكذبها، مؤكداً لأجل إنكارها {إنه} أي هذا القذف له {من كيدكن} معشر النساء؛ والكيد: طلب الإنسان بما يكرهه {إن كيدكن عظيم} والعظيم: ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى، فاستعظمه لأنه أدق من مكر الرجل وألطف وأخفى، لأن الشيطان عليهن لنقصهن أقدر، وكيدهن الذي هو من كيد الشيطان أضعفُ ضعيف بالنسبة إلى ما يدبره الله عز وجل في إبطاله؛ ثم قال العزيز آمراً له عليه السلام مسقطاً لحرف النداء دلالة على أن قربه من قلبه على حاله: {يوسف أعرض} أي انصرف بكليتك مجاوزاً {عن هذا} أي اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه إلى جهة العرض بأن لا تذكره لأحد ولا تهتم به، فإني لم أتأثر منك بوجه، لأن عذرك قد بان، وأقبل إليها فقال: {واستغفري} أي اطلبي الغفران {لذنبك} في أن لا يحصل لك عقوبة مني ولا من الله؛ واستأنف بيان ما أشار إليه بقوله: {إنك كنت} أي كوناً جبلياً {من الخاطئين} أي العريقين في الخطأ بغاية القوة، يقال: خطئ يخطأ- إذا أذنب متعمداً.
|